وحدة الفن

المقاله تحت باب  منوعات
في 
06/06/2007 06:00 AM
GMT



لم اجد شيئا يوحد البشر كالموسيقى. وتميزت قوة هذه الرابطة في فن المقام العراقي حيث جرى تقسيم الأداء بين المسلمين واليهود. المسلمون يغنون، او بالأحرى يقرأون المقام، واليهود يعزفون على الآلات في مصاحبة القارئ. وقد وردت حكايات كثيرة في هذا الصدد. سجل بعضها الخبير في فن المقام أستاذنا حسقيل قوجمان. كان من اطرف رواياته الثنائية التي جمعت بين قارئ المقام الشهير الحاج احمد زيدان وعازف الجوزة نسيم بصون.

الواقع أن الحاج احمد زيدان لم يبدأ حياته كمغن أو مطرب وانما كان مؤذنا في احد مساجد بغداد. كان له صوت شجي وقراءة رائعة للأذان. لاحظ انه كلما انهى الأذان ونزل من المنارة ليصلي بالناس، صادف رجلا يقف امام باب المسجد ولا يدخل مع الآخرين ليصلي. استغرب من أمره. فسأله لماذا يأتي الى المسجد ويقف انتظارا للأذان ثم لا يصلي؟

اجابه الرجل: «بقا شلون ادخل واصلي وياكم وانا يهودي من بني اسرائيل؟». فعاد الحاج احمد وسأله «ولماذا إذن تأتي الى المسجد وتقف على الباب ؟ تريد تتفرج او تتجسس علينا؟»

اجابه الرجل: «كلا انا يهودي موسيقي وأعزف على آلة الجوزة. احضر الى المسجد لأسمعك وانت تؤذن، اسمع كيف تنغم الأذان على انغام المقام واتعلم منك».

سأله احمد زيدان: «منو انت؟» قال «انا اسمي نسيم بصون. واترزق من العزف على الجوزة في حفلات الجالغي العراقي وحفلات الفرح، كلما يصير عند الناس زواج او طهور او مناسبة للاحتفال».

استمر الحوار بينهما في موضوع موسيقى المقام البغدادي فذهبا الى المقهى المجاور للجامع ليشربا الشاي ويواصلا الحديث. وهكذا نشأت بينهما صداقة فنية. اصبحا يلتقيان باستمرار، المؤذن المسلم وعازف الجوزة اليهودي. يجلسان ويتحاوران، المسلم يعلم اليهودي المقامات والتلاوات واليهودي يعلم المسلم الموسيقى والهارموني.

اليهودي يأتي الى الجامع ليسمع الأذان وتلاوة القرآن، والمؤذن المسلم يذهب الى حفلات الجالغي ليسمع العزف والغناء، الابراهيمي والسيكاه والصبا واللامي، وهلمجرا. اخيرا تشجع احمد زيدان فأخذ ينضم اليهم في غناء المقام فهز الآخرين بروعة صوته وإجادته للأنغام. وما هي إلا بضعة اشهر حتى تحول هذا الرجل من اداء مهمة الأذان في الجامع وتجويد القرآن الكريم، وتحول كليا الى عالم الغناء والطرب والفنون الموسيقية. وما هي إلا سنوات قليلة حتى اصبح من أعلام قراء المقام العراقي الذين نتشوق لسماع اصواتهم واغانيهم على الاسطوانات القديمة حتى يومنا هذا.

اصبحت هذه الشراكة الفنية، هذا الثنائي الاخواني بين الحاج زيدان وعازف الجوزة نسيم بصون، حلقة من حلقات تطور فنون الغناء والموسيقى الشرقية في بلاد ما بين النهرين.